ادلة الشيعة على نفي تحريف القران الكريم
صفحة 1 من اصل 1
ادلة الشيعة على نفي تحريف القران الكريم
والواقع أنّ الأدلّة الدالّة على عدم وجود النقص في القرآن الكريم هي من القوّة والمتانة، بحيث يسقط معها ما دلّ على التحريف بظاهره عن الاعتبار لو كان معتبراً، ومهما بلغ في الكثرة، ويبطل القول بذلك حتى لو ذهب إليه أكثر العلماء. وقد عقدنا هذا الفصل لإيراد تلك الأدلة بإيجاز.
أولاً: آيات من القرآن الكريم
والقرآن الكريم فيه تبيان لكل شيء، وما كان كذلك كان تبياناً لنفسه أيضاً، فلنرجع إليه لنرى هل فيه دلالة على نقصانه أو بالعكس.
أجل، إنّ في القرآن الحكيم آيات تدل بوضوح على صيانته من كلّ تحريف، وحفظه من كلّ تلاعب، فهو ينفي كل أشكال التصّرف فيه، ويعلن أنّه لا يصيبه ما يشينه ويحط من كرامته حتى الأبد.
وتلك الآيات هي:
1 ـ قوله تعالى: (إنّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا*أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة*أعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير*إنّ الذين كفروا بالذكر لمّا جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)[سورة فصلت: الآية 40 – 41 - 42].
وإذا كان القرآن العظيم لا يأتيه (الباطل) من بين يديه ولا من خلفه، فإن من أظهر مصاديق (الباطل) هو (وقوع النقصان فيه).
فهو إذاً مصون من قبل الله تعالى عن ذلك منذ نزوله إلى يوم القيامة.
2 ـ قوله تعالى: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)[سورة الحجر: الآية 9].
والمراد من (الذكر) في هذه الآية الكريمة على الأصح هو (القرآن العظيم) فالله سبحانه أنزله على نبيّه الكريم، وتعهّد بحفظه، منذ نزوله إلى الأبد، من كلّ ما يتنافى وكونه منهاجاً خالداً في الحياة ودستوراً عاماً للبشرية جمعاء.
ومن الواضح أنّ من أهمّ ما يتنافى وشأن القرآن العظيم وقدسيّته الفذة وقوع التحريف فيه وضياع شيء منه على الناس، ونقصانه عما أنزله عزّ وجلّ على نبيّه (صلى الله عليه وآله).
3 ـ قوله تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به*إنّ علينا جمعه وقرآنه*فإذا قرآناه فاتّبع قرآنه*ثم إنّ علينا بيانه)[سورة القيامة: الآية 16 – 19].
فعن ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (إنّ علينا جمعه وقرآنه) إنّ المعنى: إنّ علينا جمعه وقرآنه عليك حتى تحفظه ويمكنك تلاوته، فلا تخف فوت شيء منه(1).
ثانياً: الأحاديث عن النبي والأئمة عليهم السّلام
والمصدر الثاني من مصادر الأحكام والعقائد الإسلامية هو السنّة النبوية الشريفة الواصلة إلينا بالطرق والأسانيد الصحيحة.
ولذا كان على المسلمين أن يبحثوا في السنّة عما لم يكن في الكتاب، وأن يأخذوا منها تفسير ما أبهم، وبيان ما أجمله، فيسيروا على منهاجها، ويعملوا على وفقها، عملاً بقوله سبحانه: (ما آتاكم الرسول فخذوه*وما نهاكم عنه فانتهوا)[سورة الحشر: الآية 7]، وقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى)[سورة النجم: الآية 3].
وعلى هذا، فإنّا لما راجعنا السنّة وجدنا الأحاديث المتكثرة الدالّة بأقسامها العديدة على أنّ القرآن الكريم الموجود بين أيدينا هو ما أنزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) من غير زيادة ونقصان، وأنه كان محفوظاً على عهده، (صلّى الله عليه وآله)، وبقي كذلك حتى الآن، وأنّه سيبقى على ما هو عليه إلى الأبد.
وهذه الأحاديث على أقسام وهي:
القسم الأول
أحاديث العرض على الكتاب
لقد جاءت الأحاديث الصحيحة تنصّ على وجوب عرض الخبرين المتعارضين، بل مطلق الأحاديث على القرآن الكريم، فما وافق القرآن اخذ به وما خالفه اعرض عنه، فلولا أنّ سور القرآن وآياته مصونة من التحريف ومحفوظة من النقصان ما كانت هذه القاعدة التي قرّرها الأئمّة من أهل البيت الطاهرين، آخذين إياها من جدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولا أمكن الركون إليها والوثوق بها.
ومن تلك الأحاديث:
قول (عليه السّلام): (خطب النبي (صلّى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(2).
وقول (): (... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حرماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن النبي (صلّى الله عليه وآله)...)(3).
وقول عن أبيه عن جده علي (عليهم السلام): (إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه)(4).
وقول (عليه السّلام): (فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها موافقاً وعليه دليلاً، كان الإقتداء بها فرضاً لا يتعداه إلاّ أهل العناد...)(5).
وقول (عليه السّلام): (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه ...)(6).
وقول (عليه السّلام): (... ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة ...)(7).
فهذه الأحاديث ونحوها تدلّ على أنّ القرآن الموجود الآن هو نفس ما أنزله الله عزّ وجلّ على النبي (صلّى الله عليه وآله)، من غير زيادة ولا نقصان، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يمكن أن يكون القرآن مرجعاً للمسلمين يعرضون عليه الأحاديث التي تصل إليهم عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، فيعرف بذلك الصحيح ويؤخذ به، والسقيم فيعرض عنه ويترك.
القسم الثاني
خطبة الغدير
وإنّ من حقائق التاريخ واقعة غدير خم ... وخطبة النبّي الكريم (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم العظيم ... غير أنّا لم نعثر على رواية كاملة لخطبته (صلّى الله عليه وآله) إلاّ في كتاب (الاحتجاج) ... وفي هذه الخطبة أمر بتدّبر القرآن والرجوع في تفسيره إلى أمير المؤمنين () حيث قال:
(معاشر الناس تدبّروا القرآن، وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته، ولا تتّبعوا متشابهه. فوالله لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضّح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إليّ وشائل بعضده ومعلمكم أنّ: من كنت مولاه فهذا علي مولاه. وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيّي. وموالاته من الله عزّ وجلّ أنزلها عليّ)(.
إن أمر المسلمين بتدبّر القرآن وفهم آياته والأخذ بمحكماته دون متشابهاته يستلزم أن يكون القرآن مؤلّفاً مجموعاً موجوداً في متناول أيديهم، بمحكماته ومتشابهاته. غير أنهم مأمورون ـ للوقوف على أحكامه التفصيلية وأسراره ودقائقه التي لا تبلغها العقول ـ بالرجوع إلى خليفته ووصيّه وتلميذه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين من ولده (عليهم السّلام).
القسم الثالث
حديث الثقلين
ولم تمرّ على النبي الكريم والقائد العظيم محمد (صلّى الله عليه وآله) فرصة إلاّ وانتهزها للوصيّة بالكتاب والعترة الطاهرة، والأمر باتّباعهما والانقياد لهما والتمسّك بهما.
لذا تواتر عنه (صلّى الله عليه وآله) حديث الثقلين الذي رواه جمهور علماء المسلمين بأسانيد متكثرة متواترة، وألفاظ مختلفة متنوعة، عن أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية، وأحد ألفاظه:
(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهم لن تضلّوا بعدي أبداً...)(9).
وهذا يقتضي أن يكون القرآن الكريم مدوّناً في عهده (صلّى الله عليه وآله) بجميع آياته وسوره حتى يصح إطلاق اسم الكتاب عليه، ولذلك تكرّر ذكر الكتاب في غير واحد من سورة الشريفة.
كما أنّه يقتضي بقاء القرآن كما كان عليه ـ على عهده (صلّى الله عليه وآله) ـ إلى يوم القيامة، لتتمّ به ـ الهداية الأبوية للامة الإسلامية والبشرية جمعاء، ما داموا متمسكين بهما، كما ينصّ عليه الحديث الشريف بألفاظه وطرقه، وإلاّ لزم القول بعدم علمه (صلّى الله عليه وآله) بما سيكون في أمته، أو إخلاله بالنصح التام لأمته، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.
القسم الرابع
الأحاديث الآمرة بالرجوع إلى القرآن الكريم واستنطاقه
وهي كثيرة جدّاً ، نكتفي هنا منها بما جاء في كتب وخطب أمير المؤمنين ().
قال (عليه السّلام) في خطبة له ينبّه فيها على فضل الرسول والقرآن:
(أرسله على حين فترة من الرّسل، وطول هجعة من الأمم وانتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به، ذلك القرآن.
فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم)(10).
وقال (عليه السّلام):
(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغّي والضلال، فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجه العباد إلى الله بمثله.
واعلموا أنّه شافع مشفّع، وقائل مصدّق، وإنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، ومن محل له القرآن يوم القيامة صدّق عليه، فإنّه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إنّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، وأستدلّوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم)(11).
وقال () في كتاب له إلى الحارث الهمداني (رضي الله عنه): (وتمسّك بحبل القرآن واستنصحه، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه ...)(12).
(ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها القاصدون، جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاّه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن أئتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآية لمن توسّم، وجنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى)(13).
وقال (): (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجّة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليه أنفسهم، أتم نوره، وأكمل به دينه، وقبض نبيّه (صلّى الله عليه وآله) وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه، فإنه لم يخف عنكم شيئاً من دينه، ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه إلاّ وجعل له علماً بادياً، وآية محكمة، تزجر عنه أو تدعو إليه ...)(14).
فهذه الكلمات البليغة وأمثالها تنصّ على أنّ الله تعالى جعل القرآن الكريم نوراً يستضاء به، ومنهاجاً يعمل على وفقه، وحكماً بين العباد، ومرجعاً في المشكلات، ودليلاً عند الحيرة، ومتبعاً عند الفتنة. وكل ذلك يقتضي أن يكون ما بأيدينا من القرآن هو نفس القرآن الذي نزل على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وعرفه أمير المؤمنين وسائر الأئمّة والصحابة والمسلمون أجمعون.
القسم الخامس
الأحاديث التي تتضمن تمسّك الأئمة من أهل البيت بمختلف الآيات القرآنية المباركة
وروى المحدّثون من الإماميّة أحاديث متكاثرة جدّاً عن الأئمّة الطاهرين تتضمن تمسّكهم بمختلف الآيات عند المناظرين وفي كل بحث من البحوث، سواء في العقائد أو الأحكام أو المواعظ والحكم والأمثال، كما لا يخفى على من راجع كتبهم الحديثيّة وغيرها، وعلى رأسها كتاب (الكافي). فهم (عليهم السلام) (تمسّكوا بالآيات القرآنية (في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا، حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات التحريف، وهذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم (عليهم السلام) كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل)(15).
القسم السادس
الأحاديث الواردة عنهم (عليهم السلام) في أن ما بأيدي الناس هو القرآن النازل من عند الله
وصريح جملة من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت، أنهم (عليهم السلام) كانوا يعتقدون في هذا القرآن الموجود بأنّه هو النازل من عند الله سبحانه على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهذه الأحاديث كثيرة ننقل هنا بعضها:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ():
(كتاب ربّكم فيكم، مبيّناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله، ومبيّناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق في علمه، وموسّع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنّة نسخه، وواجب في السنّة أخذه، ومرخّص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبوله في أدناه، موسّع في أقصاه)(16).
وقال (): (أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن تبليغه وأدائه؟ والله سبحانه يقول: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) وقال: (فيه تبيان لكل شيء) وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تكشف الظلمات إلاّ به)(17).
وعن الريان بن الصلت قال: (قلت للرضا (عليه السّلام) يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟
فقال: كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا)(18).
وجاء فيما كتبه (عليه السّلام) للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين:
(وإنّ جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه.
والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وأنه المهيمن على الكتب كلّها، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه وأخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله)(19).
وعن علي بن سالم عن أبيه قال: (سألت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السّلام) فقلت له: يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟
فقال: هو كلام الله، وقول الله، وكتاب الله، ووحي الله وتنزيله، وهو الكتاب العزيز الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(20).
ثالثاً: قول عمر بن خطاب: حسبنا كتاب الله
ومن الرزايا العظيمة والكوارث الفادحة التي قصمت ظهر المسلمين وأدّت إلى ضلال أكثرهم عن الهدى الذي أراده لهم الله ورسوله، ذلك الخلاف الذي حدث عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف، بين صحابته الحاضرين عنده في تلك الحال.
ومجمل القضية هو: إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لما حضرته الوفاة وعنده رجال من صحابته ـ فيهم عمر بن الخطاب ـ قال: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، وفي لفظ آخر: ائتوني بالكتف والدواة ـ أو: اللوح والدواة ـ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقال عمر: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع(21)، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
وفي لفظ آخر: فقالوا: إنّ رسول الله يهجر. ـ من دون تصريح باسم المعارض ـ !
فاختلف الحاضرين، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر!
فلما أكثروا ذلك عنده (صلّى الله عليه وآله) قال لهم: قوموا عنّي(22).
ولسنا نحن الآن بصدد محاسبة هذا الرجل على كلامه هذا الذي غيّر مجرى التأريخ، وحال دون ما أراده الله والرسول لهذه الأمة من الخير والصلاح والرشاد، إلى يوم القيامة، حتى أنّ ابن عباس كل يقول: (يوم الخميس وما يوم الخميس) ثم يبكي(23).
وكان رضي الله عنه يقول:
(إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين كتابه)(24).
وإنّما نريد الإستشهاد بقوله: (إن عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله) الصريح في وجود القرآن عندهم مدوّناً مجموعاً حينذاك، ويدل على ذلك أنّه لم يعترض عليه أحد ـ لا من القائلين قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً، ولا من غيرهم ـ بأنّ سور القرآن وآياته متفرقة مبثوثة، وبهذا تم لعمر بن الخطاب والقائلين مقالته ما أرادوا من الحيلولة بينه (صلّى الله عليه وآله) وبين كتابة الوصيّة.
رابعاً: الإجماع
ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن: إجماع العلماء في كل الأزمان كما في كشف الغطاء وفي كلام جماعة من كبار العلماء، وهو ظاهر كلمة (إلينا) أي (الإمامية) في قول الشيخ الصدوق (ومن نسب إلينا ... فهو كاذب).
وقال العلاّمة الحلّي: (واتّفقوا على أنّ ما نقل إلينا متواتراً من القرآن، فهو حجة ... لأن النبي (صلّى الله عليه وآله) كان مكلّفاً بإشاعة ما نزل عليه من حجة ... القرآن إلى عدد التواتر، ليحصل القطع بنبوّته في أنّه المعجزة له. وحينئذ لا يمكن التوافق على ما نقل مما سمعوه منه بغير تواتر، وراوي الواحد إن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ ... والإجماع دلّ على وجوب إلقائه (صلّى الله عليه وآله) على عدد التواتر، فإنه المعجزة الدالّة على صدقه، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته، فلا يبقى هناك حجّة على نبوّته)(25).
وقال السيّد العاملي: (والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل القرآن من أجزائه وألفاظه وحركاته وسكناته ووضعه في محلّة، لتوفّر الدواعي على نقله من المقر لكونه أصلاً لجميع الأحكام، والمنكر لإبطاله لكونه معجزاً. فلا يعبأ بخلاف من خالف أو شك في المقام)(26).
وقال الشيخ البلاغي: (ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلاً بعد جيل، استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد، فلم يؤثّر شيئاً على مادّته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم)(27).
ومن المعلوم أنّ الإجماع حجّة لدى المسلمين، أمّا عند الإمامية فلأنّه كاشف عن رأي المعصوم (عليه السّلام)(28) بل عدم النقصان من الضروريّات كما في كلام السيد المرتضى، وقد نقل بعض الأكابر عباراته ووافقه على ما قال.
خامساً: تواتر القرآن
ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن تواتره من طرق الإماميّة بجميع حركاته وسكناته، وحروفه وكلماته، وآياته وسورة، تواتراً قطعياً عن الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) عن جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(29).
فهم يعتقدون بأن هذا القرآن الموجود بأيدينا هو المنزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بلا زيادة ولا نقصان. قال الصّدوق: (اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلّى الله عليه وآله) هو ما بين الدفّتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة ...).
سادساً: إعجاز القرآن
ومن الأدلّة على عدم التحريف هو: أنّ التحريف ينافي كون القرآن معجزاً، لفوات المعنى بالتحريف، لأنّ مدار الإعجاز هو الفصاحة والبلاغة الدائرتان مدار المعنى، ومن المعلوم أنّ القرآن معجز باق.
وهذه عبارة (بشرى الوصول) في الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها على عدم تحريف القرآن.
وقد جاءت الإشارة إلى هذا الوجه في كلام السيد المرتضى حيث قال في استدلاله: (لأنّ القرآن معجزة النبوّة) وفي كلام العلاّمة الحلّي:
(إنّ القول بالتحريف يوجب التطرّق إلى معجزة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المنقولة بالتواتر).
وفي كلام كاشف الغطاء: (إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ...).
سابعاً: صلاة الإمامية
ومن الأدلّة على اعتقاد الإماميّة بعدم سقوط شيء من القرآن الكريم: صلاتهم، لأنّهم يوجبون قراءة سورة كاملة(30). بعد الحمد في الركعة الأولى والثانية(31) من الصلوات الخمس اليوميّة من سائر سور القرآن عدا الفاتحة، ولا يجوز عند جماعة كبيرة منهم القران بين سورتين(32).
قال السيد شرف الدين:
(وصلاتهم بهذه الكيفيّة والأحكام دليل ظاهر على اعتقادهم بكون سور القرآن بأجمعها زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله) على ما هي عليه الآن، وإلاّ لما تسنّى لهم هذا القول)(33).
ثامناً: كون القرآن مجموعاً على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله)
ومن الأدلّة على عدم وجود النقص في القرآن ثبوت كونه مجموعاً على عهد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، موجوداً كذلك بين المسلمين كما يدل على ذلك من الأخبار في كتب الفريقين، ومن ذلك أخبار أمره (صلّى الله عليه وآله) بقراءة القرآن وتدبّره وعرض ما يروى عنه (صلّى الله عليه وآله) عليه ... وقد تقدم بعضها، وإنّ جماعة من الصحابة ختموا القرآن على عهده، وتلوه، وحفظوه، يجد أسماءهم من راجع كتب علوم القرآن، وإنّ جبرائيل كان يعارضه (صلّى الله عليه وآله) به كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين(34).
وكل هذا الذي ذكرنا دليل واضح على أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي كان بين يدي الرسول (صلّى الله عليه وآله) وصحابته على عهده فما بعد، من غير زيادة ولا نقصان. وقد ذكر هذا الدليل جماعة.
تاسعاً: اهتمام النبي (ص) والمسلمين بالقرآن
وهل يمكن لأحد من المسلمين إنكار اهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن؟!
لقد كان حريصاً على نشر سور القرآن بين المسلمين بمجرد نزولها، مؤكداً عليهم حفظها ودراستها وتعلّمها، مبيناً لهم فضل ذلك وثوابه وفوائده في الدنيا والآخرة.
فحثّه (صلّى الله عليه وآله) وترغيبه بحفظ القرآن في الصدور والقراطيس ونحوها، وأمره بتعليمه وتعلّمه رجالاً ونساءً وأطفالاً، مما ثبت بالضرورة بحيث لا يبقى مجال لإنكار المنكر وجدال المكابر.
وأمّا المسلمون، فقد كانت الدواعي لديهم لحفظ القرآن والعناية به متوفّرة، ولذا كانوا يقدّمونه على غيره في ذلك، لأنّه معجزة النبوة الخالدة ومرجعهم في الأحكام الشرعيّة والأمور الدينيّة، فكيف يتصور سقوط شيء منه والحال هذه؟!
نعم، قد يقال: إنّه كما كانت الدواعي متوفّرة لحفظ القرآن وضبطه وحراسته، كذلك كانت الدواعي متوفّرة على تحريفه وتغييره من قبل المنافقين وأعداء الإسلام والمسلمين، الذين خابت ظنونهم في أن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو أية من آياته.
ولكن لا مجال لهذا الاحتمال بعد تأييد الله سبحانه المسلمين في العناية والاهتمام بالقرآن، وتعهّده بحفظه بحيث (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
الهوامش:
1- مجمع البيان ج 5 ص 397
2- وسائل الشيعة ج 18 ص 79 عن الكافي.
3- عيون أخبار الرضا ج 2 ص 20.
4- الأمالي للشيخ الصدوق ص 367.
5- تحف العقول ص 343.
6- وسائل الشيعة ج 18 ص 84.
7- وسائل الشيعة ج 18 ص 75.
8- الاحتجاج ج 1 ص 60.
9- حديث الثقلين من جملة الأحاديث التي لا يشك مسلم في صدورها من النبي (صلّى الله عليه وآله). فقد رواه عنه أكثر من ثلاثين من الصحابة، وأورده من علماء أهل السنّة ما يقارب الـ 500 شخصية من مختلف طبقاتهم منذ زمن التابعين حتى عصرنا الحاضر من مؤرخين ومفسرين ومحدّثين وغيرهم.
وهذا الحديث يدل بوضوح على عصمة الأئمة من العترة ووجوب إطاعتهم وامتثال أوامرهم والاهتداء بهداهم في الأمور الدينية والدنيوية، والأخذ بأقوالهم في الأحكام الشرعية وغيرها. كما يدل على بقائهم وعدم خلو الأرض منهم إلى يوم القيامة كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن.
10- نهج البلاغة ص 223 ص 158.
11- نهج البلاغة ص 202 ص 176.
12- نهج البلاغة ص 459 ص 69.
13- نهج البلاغة ص 315 ص 198.
14- نفس المصدر ص 265 ص 183.
15- الميزان في تفسير القرآن ج 12 ص 111.
16- نهج البلاغة ص 44 ص 1.
17ـ نهج البلاغة ص 16 ص 18.
18- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج 2 ص 57. الأمالي ص 546.
19- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج 2 ص 130.
20- الأمالي ص 545.
21- قال سيدنا شرف الدين: (وقد تصرّفوا فيه: فنقوله بالمعنى، لأنّ لفظه الثابت: إنّ النبي يهجر. لكنهم ذكروا أنّه قال: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع، تهذيباً للعبارة، واتقاء فظاعتها...) النصّ والاجتهاد ص 143.
22- راجع جميع الصحاح والمسانيد والتواريخ والسير وكتب الكلام، تجد القضية باختلاف ألفاظها وأسانيدها.
23- صحيح البخاري ج 2 ص 118.
24- نفس المصدر ج1 كتاب العلم، باب كتابة العلم.
25- نهاية الوصول ـ مبحث التواتر.
26- مفتاح الكرامة ج 2 ص 390.
27- آلاء الرحمن ـ الفصل الثالث من المقدمة.
28- يراجع بهذا الصدد كتب أصول الفقه.
29- أجوبة مسائل جار الله لشرف الدين، مجمع البيان عن السيد المرتضى.
30- أجوبة مسائل جار الله، وهذا هو المشهور بين الفقهاء، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع، أنظر مفتاح الكرامة ج 2 ص 350.
31- أما في الثالثة والرابعة فهو بالخيار إن شاء قرأ الحمد وان شاء سبح إجماعاً، وإن اختلفوا في أفضليّة أحد الفردين.
32- جواهر الكلام والرياض وغيرهما. وقد ذكر جماعة من قدماء الفقهاء والمفسرين استثناء سورتي (الضحى وألم نشرح) وسورتي (الفيل والايلاف) من هذا الحكم، مصرّحين بوجوب قران كل سورة منها بصاحبتها. أنظر مفتاح الكرامة ج 2 ص 385.
33- أجوبة مسائل جار الله ص 28.
34- روى ذلك عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جميع الكتب الحديثيّة وغيرها، حتى كاد يكون من الأمور الضرورية.
أولاً: آيات من القرآن الكريم
والقرآن الكريم فيه تبيان لكل شيء، وما كان كذلك كان تبياناً لنفسه أيضاً، فلنرجع إليه لنرى هل فيه دلالة على نقصانه أو بالعكس.
أجل، إنّ في القرآن الحكيم آيات تدل بوضوح على صيانته من كلّ تحريف، وحفظه من كلّ تلاعب، فهو ينفي كل أشكال التصّرف فيه، ويعلن أنّه لا يصيبه ما يشينه ويحط من كرامته حتى الأبد.
وتلك الآيات هي:
1 ـ قوله تعالى: (إنّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا*أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة*أعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير*إنّ الذين كفروا بالذكر لمّا جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)[سورة فصلت: الآية 40 – 41 - 42].
وإذا كان القرآن العظيم لا يأتيه (الباطل) من بين يديه ولا من خلفه، فإن من أظهر مصاديق (الباطل) هو (وقوع النقصان فيه).
فهو إذاً مصون من قبل الله تعالى عن ذلك منذ نزوله إلى يوم القيامة.
2 ـ قوله تعالى: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)[سورة الحجر: الآية 9].
والمراد من (الذكر) في هذه الآية الكريمة على الأصح هو (القرآن العظيم) فالله سبحانه أنزله على نبيّه الكريم، وتعهّد بحفظه، منذ نزوله إلى الأبد، من كلّ ما يتنافى وكونه منهاجاً خالداً في الحياة ودستوراً عاماً للبشرية جمعاء.
ومن الواضح أنّ من أهمّ ما يتنافى وشأن القرآن العظيم وقدسيّته الفذة وقوع التحريف فيه وضياع شيء منه على الناس، ونقصانه عما أنزله عزّ وجلّ على نبيّه (صلى الله عليه وآله).
3 ـ قوله تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به*إنّ علينا جمعه وقرآنه*فإذا قرآناه فاتّبع قرآنه*ثم إنّ علينا بيانه)[سورة القيامة: الآية 16 – 19].
فعن ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (إنّ علينا جمعه وقرآنه) إنّ المعنى: إنّ علينا جمعه وقرآنه عليك حتى تحفظه ويمكنك تلاوته، فلا تخف فوت شيء منه(1).
ثانياً: الأحاديث عن النبي والأئمة عليهم السّلام
والمصدر الثاني من مصادر الأحكام والعقائد الإسلامية هو السنّة النبوية الشريفة الواصلة إلينا بالطرق والأسانيد الصحيحة.
ولذا كان على المسلمين أن يبحثوا في السنّة عما لم يكن في الكتاب، وأن يأخذوا منها تفسير ما أبهم، وبيان ما أجمله، فيسيروا على منهاجها، ويعملوا على وفقها، عملاً بقوله سبحانه: (ما آتاكم الرسول فخذوه*وما نهاكم عنه فانتهوا)[سورة الحشر: الآية 7]، وقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى)[سورة النجم: الآية 3].
وعلى هذا، فإنّا لما راجعنا السنّة وجدنا الأحاديث المتكثرة الدالّة بأقسامها العديدة على أنّ القرآن الكريم الموجود بين أيدينا هو ما أنزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) من غير زيادة ونقصان، وأنه كان محفوظاً على عهده، (صلّى الله عليه وآله)، وبقي كذلك حتى الآن، وأنّه سيبقى على ما هو عليه إلى الأبد.
وهذه الأحاديث على أقسام وهي:
القسم الأول
أحاديث العرض على الكتاب
لقد جاءت الأحاديث الصحيحة تنصّ على وجوب عرض الخبرين المتعارضين، بل مطلق الأحاديث على القرآن الكريم، فما وافق القرآن اخذ به وما خالفه اعرض عنه، فلولا أنّ سور القرآن وآياته مصونة من التحريف ومحفوظة من النقصان ما كانت هذه القاعدة التي قرّرها الأئمّة من أهل البيت الطاهرين، آخذين إياها من جدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولا أمكن الركون إليها والوثوق بها.
ومن تلك الأحاديث:
قول (عليه السّلام): (خطب النبي (صلّى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(2).
وقول (): (... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حرماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن النبي (صلّى الله عليه وآله)...)(3).
وقول عن أبيه عن جده علي (عليهم السلام): (إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه)(4).
وقول (عليه السّلام): (فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها موافقاً وعليه دليلاً، كان الإقتداء بها فرضاً لا يتعداه إلاّ أهل العناد...)(5).
وقول (عليه السّلام): (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه ...)(6).
وقول (عليه السّلام): (... ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة ...)(7).
فهذه الأحاديث ونحوها تدلّ على أنّ القرآن الموجود الآن هو نفس ما أنزله الله عزّ وجلّ على النبي (صلّى الله عليه وآله)، من غير زيادة ولا نقصان، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يمكن أن يكون القرآن مرجعاً للمسلمين يعرضون عليه الأحاديث التي تصل إليهم عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، فيعرف بذلك الصحيح ويؤخذ به، والسقيم فيعرض عنه ويترك.
القسم الثاني
خطبة الغدير
وإنّ من حقائق التاريخ واقعة غدير خم ... وخطبة النبّي الكريم (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم العظيم ... غير أنّا لم نعثر على رواية كاملة لخطبته (صلّى الله عليه وآله) إلاّ في كتاب (الاحتجاج) ... وفي هذه الخطبة أمر بتدّبر القرآن والرجوع في تفسيره إلى أمير المؤمنين () حيث قال:
(معاشر الناس تدبّروا القرآن، وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته، ولا تتّبعوا متشابهه. فوالله لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضّح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إليّ وشائل بعضده ومعلمكم أنّ: من كنت مولاه فهذا علي مولاه. وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيّي. وموالاته من الله عزّ وجلّ أنزلها عليّ)(.
إن أمر المسلمين بتدبّر القرآن وفهم آياته والأخذ بمحكماته دون متشابهاته يستلزم أن يكون القرآن مؤلّفاً مجموعاً موجوداً في متناول أيديهم، بمحكماته ومتشابهاته. غير أنهم مأمورون ـ للوقوف على أحكامه التفصيلية وأسراره ودقائقه التي لا تبلغها العقول ـ بالرجوع إلى خليفته ووصيّه وتلميذه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين من ولده (عليهم السّلام).
القسم الثالث
حديث الثقلين
ولم تمرّ على النبي الكريم والقائد العظيم محمد (صلّى الله عليه وآله) فرصة إلاّ وانتهزها للوصيّة بالكتاب والعترة الطاهرة، والأمر باتّباعهما والانقياد لهما والتمسّك بهما.
لذا تواتر عنه (صلّى الله عليه وآله) حديث الثقلين الذي رواه جمهور علماء المسلمين بأسانيد متكثرة متواترة، وألفاظ مختلفة متنوعة، عن أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية، وأحد ألفاظه:
(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهم لن تضلّوا بعدي أبداً...)(9).
وهذا يقتضي أن يكون القرآن الكريم مدوّناً في عهده (صلّى الله عليه وآله) بجميع آياته وسوره حتى يصح إطلاق اسم الكتاب عليه، ولذلك تكرّر ذكر الكتاب في غير واحد من سورة الشريفة.
كما أنّه يقتضي بقاء القرآن كما كان عليه ـ على عهده (صلّى الله عليه وآله) ـ إلى يوم القيامة، لتتمّ به ـ الهداية الأبوية للامة الإسلامية والبشرية جمعاء، ما داموا متمسكين بهما، كما ينصّ عليه الحديث الشريف بألفاظه وطرقه، وإلاّ لزم القول بعدم علمه (صلّى الله عليه وآله) بما سيكون في أمته، أو إخلاله بالنصح التام لأمته، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.
القسم الرابع
الأحاديث الآمرة بالرجوع إلى القرآن الكريم واستنطاقه
وهي كثيرة جدّاً ، نكتفي هنا منها بما جاء في كتب وخطب أمير المؤمنين ().
قال (عليه السّلام) في خطبة له ينبّه فيها على فضل الرسول والقرآن:
(أرسله على حين فترة من الرّسل، وطول هجعة من الأمم وانتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به، ذلك القرآن.
فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم)(10).
وقال (عليه السّلام):
(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغّي والضلال، فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجه العباد إلى الله بمثله.
واعلموا أنّه شافع مشفّع، وقائل مصدّق، وإنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، ومن محل له القرآن يوم القيامة صدّق عليه، فإنّه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إنّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، وأستدلّوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم)(11).
وقال () في كتاب له إلى الحارث الهمداني (رضي الله عنه): (وتمسّك بحبل القرآن واستنصحه، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه ...)(12).
(ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها القاصدون، جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاّه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن أئتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآية لمن توسّم، وجنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى)(13).
وقال (): (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجّة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليه أنفسهم، أتم نوره، وأكمل به دينه، وقبض نبيّه (صلّى الله عليه وآله) وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه، فإنه لم يخف عنكم شيئاً من دينه، ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه إلاّ وجعل له علماً بادياً، وآية محكمة، تزجر عنه أو تدعو إليه ...)(14).
فهذه الكلمات البليغة وأمثالها تنصّ على أنّ الله تعالى جعل القرآن الكريم نوراً يستضاء به، ومنهاجاً يعمل على وفقه، وحكماً بين العباد، ومرجعاً في المشكلات، ودليلاً عند الحيرة، ومتبعاً عند الفتنة. وكل ذلك يقتضي أن يكون ما بأيدينا من القرآن هو نفس القرآن الذي نزل على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وعرفه أمير المؤمنين وسائر الأئمّة والصحابة والمسلمون أجمعون.
القسم الخامس
الأحاديث التي تتضمن تمسّك الأئمة من أهل البيت بمختلف الآيات القرآنية المباركة
وروى المحدّثون من الإماميّة أحاديث متكاثرة جدّاً عن الأئمّة الطاهرين تتضمن تمسّكهم بمختلف الآيات عند المناظرين وفي كل بحث من البحوث، سواء في العقائد أو الأحكام أو المواعظ والحكم والأمثال، كما لا يخفى على من راجع كتبهم الحديثيّة وغيرها، وعلى رأسها كتاب (الكافي). فهم (عليهم السلام) (تمسّكوا بالآيات القرآنية (في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا، حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات التحريف، وهذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم (عليهم السلام) كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل)(15).
القسم السادس
الأحاديث الواردة عنهم (عليهم السلام) في أن ما بأيدي الناس هو القرآن النازل من عند الله
وصريح جملة من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت، أنهم (عليهم السلام) كانوا يعتقدون في هذا القرآن الموجود بأنّه هو النازل من عند الله سبحانه على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهذه الأحاديث كثيرة ننقل هنا بعضها:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ():
(كتاب ربّكم فيكم، مبيّناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله، ومبيّناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق في علمه، وموسّع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنّة نسخه، وواجب في السنّة أخذه، ومرخّص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبوله في أدناه، موسّع في أقصاه)(16).
وقال (): (أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن تبليغه وأدائه؟ والله سبحانه يقول: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) وقال: (فيه تبيان لكل شيء) وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تكشف الظلمات إلاّ به)(17).
وعن الريان بن الصلت قال: (قلت للرضا (عليه السّلام) يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟
فقال: كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا)(18).
وجاء فيما كتبه (عليه السّلام) للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين:
(وإنّ جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه.
والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وأنه المهيمن على الكتب كلّها، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه وأخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله)(19).
وعن علي بن سالم عن أبيه قال: (سألت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السّلام) فقلت له: يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟
فقال: هو كلام الله، وقول الله، وكتاب الله، ووحي الله وتنزيله، وهو الكتاب العزيز الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(20).
ثالثاً: قول عمر بن خطاب: حسبنا كتاب الله
ومن الرزايا العظيمة والكوارث الفادحة التي قصمت ظهر المسلمين وأدّت إلى ضلال أكثرهم عن الهدى الذي أراده لهم الله ورسوله، ذلك الخلاف الذي حدث عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف، بين صحابته الحاضرين عنده في تلك الحال.
ومجمل القضية هو: إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لما حضرته الوفاة وعنده رجال من صحابته ـ فيهم عمر بن الخطاب ـ قال: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، وفي لفظ آخر: ائتوني بالكتف والدواة ـ أو: اللوح والدواة ـ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقال عمر: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع(21)، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
وفي لفظ آخر: فقالوا: إنّ رسول الله يهجر. ـ من دون تصريح باسم المعارض ـ !
فاختلف الحاضرين، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر!
فلما أكثروا ذلك عنده (صلّى الله عليه وآله) قال لهم: قوموا عنّي(22).
ولسنا نحن الآن بصدد محاسبة هذا الرجل على كلامه هذا الذي غيّر مجرى التأريخ، وحال دون ما أراده الله والرسول لهذه الأمة من الخير والصلاح والرشاد، إلى يوم القيامة، حتى أنّ ابن عباس كل يقول: (يوم الخميس وما يوم الخميس) ثم يبكي(23).
وكان رضي الله عنه يقول:
(إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين كتابه)(24).
وإنّما نريد الإستشهاد بقوله: (إن عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله) الصريح في وجود القرآن عندهم مدوّناً مجموعاً حينذاك، ويدل على ذلك أنّه لم يعترض عليه أحد ـ لا من القائلين قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً، ولا من غيرهم ـ بأنّ سور القرآن وآياته متفرقة مبثوثة، وبهذا تم لعمر بن الخطاب والقائلين مقالته ما أرادوا من الحيلولة بينه (صلّى الله عليه وآله) وبين كتابة الوصيّة.
رابعاً: الإجماع
ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن: إجماع العلماء في كل الأزمان كما في كشف الغطاء وفي كلام جماعة من كبار العلماء، وهو ظاهر كلمة (إلينا) أي (الإمامية) في قول الشيخ الصدوق (ومن نسب إلينا ... فهو كاذب).
وقال العلاّمة الحلّي: (واتّفقوا على أنّ ما نقل إلينا متواتراً من القرآن، فهو حجة ... لأن النبي (صلّى الله عليه وآله) كان مكلّفاً بإشاعة ما نزل عليه من حجة ... القرآن إلى عدد التواتر، ليحصل القطع بنبوّته في أنّه المعجزة له. وحينئذ لا يمكن التوافق على ما نقل مما سمعوه منه بغير تواتر، وراوي الواحد إن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ ... والإجماع دلّ على وجوب إلقائه (صلّى الله عليه وآله) على عدد التواتر، فإنه المعجزة الدالّة على صدقه، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته، فلا يبقى هناك حجّة على نبوّته)(25).
وقال السيّد العاملي: (والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل القرآن من أجزائه وألفاظه وحركاته وسكناته ووضعه في محلّة، لتوفّر الدواعي على نقله من المقر لكونه أصلاً لجميع الأحكام، والمنكر لإبطاله لكونه معجزاً. فلا يعبأ بخلاف من خالف أو شك في المقام)(26).
وقال الشيخ البلاغي: (ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلاً بعد جيل، استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد، فلم يؤثّر شيئاً على مادّته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم)(27).
ومن المعلوم أنّ الإجماع حجّة لدى المسلمين، أمّا عند الإمامية فلأنّه كاشف عن رأي المعصوم (عليه السّلام)(28) بل عدم النقصان من الضروريّات كما في كلام السيد المرتضى، وقد نقل بعض الأكابر عباراته ووافقه على ما قال.
خامساً: تواتر القرآن
ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن تواتره من طرق الإماميّة بجميع حركاته وسكناته، وحروفه وكلماته، وآياته وسورة، تواتراً قطعياً عن الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) عن جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(29).
فهم يعتقدون بأن هذا القرآن الموجود بأيدينا هو المنزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بلا زيادة ولا نقصان. قال الصّدوق: (اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلّى الله عليه وآله) هو ما بين الدفّتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة ...).
سادساً: إعجاز القرآن
ومن الأدلّة على عدم التحريف هو: أنّ التحريف ينافي كون القرآن معجزاً، لفوات المعنى بالتحريف، لأنّ مدار الإعجاز هو الفصاحة والبلاغة الدائرتان مدار المعنى، ومن المعلوم أنّ القرآن معجز باق.
وهذه عبارة (بشرى الوصول) في الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها على عدم تحريف القرآن.
وقد جاءت الإشارة إلى هذا الوجه في كلام السيد المرتضى حيث قال في استدلاله: (لأنّ القرآن معجزة النبوّة) وفي كلام العلاّمة الحلّي:
(إنّ القول بالتحريف يوجب التطرّق إلى معجزة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المنقولة بالتواتر).
وفي كلام كاشف الغطاء: (إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ...).
سابعاً: صلاة الإمامية
ومن الأدلّة على اعتقاد الإماميّة بعدم سقوط شيء من القرآن الكريم: صلاتهم، لأنّهم يوجبون قراءة سورة كاملة(30). بعد الحمد في الركعة الأولى والثانية(31) من الصلوات الخمس اليوميّة من سائر سور القرآن عدا الفاتحة، ولا يجوز عند جماعة كبيرة منهم القران بين سورتين(32).
قال السيد شرف الدين:
(وصلاتهم بهذه الكيفيّة والأحكام دليل ظاهر على اعتقادهم بكون سور القرآن بأجمعها زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله) على ما هي عليه الآن، وإلاّ لما تسنّى لهم هذا القول)(33).
ثامناً: كون القرآن مجموعاً على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله)
ومن الأدلّة على عدم وجود النقص في القرآن ثبوت كونه مجموعاً على عهد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، موجوداً كذلك بين المسلمين كما يدل على ذلك من الأخبار في كتب الفريقين، ومن ذلك أخبار أمره (صلّى الله عليه وآله) بقراءة القرآن وتدبّره وعرض ما يروى عنه (صلّى الله عليه وآله) عليه ... وقد تقدم بعضها، وإنّ جماعة من الصحابة ختموا القرآن على عهده، وتلوه، وحفظوه، يجد أسماءهم من راجع كتب علوم القرآن، وإنّ جبرائيل كان يعارضه (صلّى الله عليه وآله) به كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين(34).
وكل هذا الذي ذكرنا دليل واضح على أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي كان بين يدي الرسول (صلّى الله عليه وآله) وصحابته على عهده فما بعد، من غير زيادة ولا نقصان. وقد ذكر هذا الدليل جماعة.
تاسعاً: اهتمام النبي (ص) والمسلمين بالقرآن
وهل يمكن لأحد من المسلمين إنكار اهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن؟!
لقد كان حريصاً على نشر سور القرآن بين المسلمين بمجرد نزولها، مؤكداً عليهم حفظها ودراستها وتعلّمها، مبيناً لهم فضل ذلك وثوابه وفوائده في الدنيا والآخرة.
فحثّه (صلّى الله عليه وآله) وترغيبه بحفظ القرآن في الصدور والقراطيس ونحوها، وأمره بتعليمه وتعلّمه رجالاً ونساءً وأطفالاً، مما ثبت بالضرورة بحيث لا يبقى مجال لإنكار المنكر وجدال المكابر.
وأمّا المسلمون، فقد كانت الدواعي لديهم لحفظ القرآن والعناية به متوفّرة، ولذا كانوا يقدّمونه على غيره في ذلك، لأنّه معجزة النبوة الخالدة ومرجعهم في الأحكام الشرعيّة والأمور الدينيّة، فكيف يتصور سقوط شيء منه والحال هذه؟!
نعم، قد يقال: إنّه كما كانت الدواعي متوفّرة لحفظ القرآن وضبطه وحراسته، كذلك كانت الدواعي متوفّرة على تحريفه وتغييره من قبل المنافقين وأعداء الإسلام والمسلمين، الذين خابت ظنونهم في أن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو أية من آياته.
ولكن لا مجال لهذا الاحتمال بعد تأييد الله سبحانه المسلمين في العناية والاهتمام بالقرآن، وتعهّده بحفظه بحيث (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
الهوامش:
1- مجمع البيان ج 5 ص 397
2- وسائل الشيعة ج 18 ص 79 عن الكافي.
3- عيون أخبار الرضا ج 2 ص 20.
4- الأمالي للشيخ الصدوق ص 367.
5- تحف العقول ص 343.
6- وسائل الشيعة ج 18 ص 84.
7- وسائل الشيعة ج 18 ص 75.
8- الاحتجاج ج 1 ص 60.
9- حديث الثقلين من جملة الأحاديث التي لا يشك مسلم في صدورها من النبي (صلّى الله عليه وآله). فقد رواه عنه أكثر من ثلاثين من الصحابة، وأورده من علماء أهل السنّة ما يقارب الـ 500 شخصية من مختلف طبقاتهم منذ زمن التابعين حتى عصرنا الحاضر من مؤرخين ومفسرين ومحدّثين وغيرهم.
وهذا الحديث يدل بوضوح على عصمة الأئمة من العترة ووجوب إطاعتهم وامتثال أوامرهم والاهتداء بهداهم في الأمور الدينية والدنيوية، والأخذ بأقوالهم في الأحكام الشرعية وغيرها. كما يدل على بقائهم وعدم خلو الأرض منهم إلى يوم القيامة كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن.
10- نهج البلاغة ص 223 ص 158.
11- نهج البلاغة ص 202 ص 176.
12- نهج البلاغة ص 459 ص 69.
13- نهج البلاغة ص 315 ص 198.
14- نفس المصدر ص 265 ص 183.
15- الميزان في تفسير القرآن ج 12 ص 111.
16- نهج البلاغة ص 44 ص 1.
17ـ نهج البلاغة ص 16 ص 18.
18- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج 2 ص 57. الأمالي ص 546.
19- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج 2 ص 130.
20- الأمالي ص 545.
21- قال سيدنا شرف الدين: (وقد تصرّفوا فيه: فنقوله بالمعنى، لأنّ لفظه الثابت: إنّ النبي يهجر. لكنهم ذكروا أنّه قال: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع، تهذيباً للعبارة، واتقاء فظاعتها...) النصّ والاجتهاد ص 143.
22- راجع جميع الصحاح والمسانيد والتواريخ والسير وكتب الكلام، تجد القضية باختلاف ألفاظها وأسانيدها.
23- صحيح البخاري ج 2 ص 118.
24- نفس المصدر ج1 كتاب العلم، باب كتابة العلم.
25- نهاية الوصول ـ مبحث التواتر.
26- مفتاح الكرامة ج 2 ص 390.
27- آلاء الرحمن ـ الفصل الثالث من المقدمة.
28- يراجع بهذا الصدد كتب أصول الفقه.
29- أجوبة مسائل جار الله لشرف الدين، مجمع البيان عن السيد المرتضى.
30- أجوبة مسائل جار الله، وهذا هو المشهور بين الفقهاء، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع، أنظر مفتاح الكرامة ج 2 ص 350.
31- أما في الثالثة والرابعة فهو بالخيار إن شاء قرأ الحمد وان شاء سبح إجماعاً، وإن اختلفوا في أفضليّة أحد الفردين.
32- جواهر الكلام والرياض وغيرهما. وقد ذكر جماعة من قدماء الفقهاء والمفسرين استثناء سورتي (الضحى وألم نشرح) وسورتي (الفيل والايلاف) من هذا الحكم، مصرّحين بوجوب قران كل سورة منها بصاحبتها. أنظر مفتاح الكرامة ج 2 ص 385.
33- أجوبة مسائل جار الله ص 28.
34- روى ذلك عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جميع الكتب الحديثيّة وغيرها، حتى كاد يكون من الأمور الضرورية.
مواضيع مماثلة
» معلومات عن القران الكريم
» ثواب ختم القران الكريم
» ظهور الامام المهدي بين الشيعة والسنة
» هل تعلم ماذا يفعل لك القران عند موتك
» ثواب ختم القران الكريم
» ظهور الامام المهدي بين الشيعة والسنة
» هل تعلم ماذا يفعل لك القران عند موتك
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى